الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
منزلة الشوق إلى الله عز وجل:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع والثمانين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، والمنزلة اليوم منزلة الشوق إلى الله عز وجل، أصل هذه المنزلة من قوله تعالى:
﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)﴾
﴿يرجو لقاء الله﴾ أي هو مشتاق إلى الله، هذه المنزلة تنطلق من هذه الآية، وكأن الله عز وجل يطمئن هذا المشتاق أنه لابدّ من أن تصل إلى مطلوبك، لابدّ من أن تصل إلى محبوبك، لابدّ من أن تقرّ عينك بالله عز وجل: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ أي أنتم الآن في دار عمل والآخرة دار الجزاء، نحن في دار التكليف والآخرة دار التشريف، نحن في دار السعي والآخرة دار اللقاء، لذلك المؤمن وعده الله عز وجل بجنات عرضها السماوات والأرض، هذا ورد في معنى قوله تعالى:
﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)﴾
الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم، وهناك مرتبة فوق الزيادة:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)﴾
فالدرجة الأولى الجنة وما فيها؛ من أنهار، وأشجار، وحور عين، وولدان مُخلّدين، ثم ما فيها من نظر إلى وجه الله الكريم، ثم ما يناله المرء من رضوان الله عز وجل لقول الله عز وجـل: ﴿ورضوان من الله أكبر﴾ هذه الجنة تُحقق للمشتاق بُغيته، ولكن المشتاق في دار عمل، فلو غرق في أحوال أضعفت عمله، لذلك قال الله عز وجل: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ .
رسالة فيها اطمئنان للمؤمن:
اطمئن أيها المؤمن، ولعله إذا قرأت قوله تعالى يذوب قلبك:
﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)﴾
وكأن هذه الآية تشير إلى أن المشتاق سيصل إلى محبوبه.
﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ هذه الآية تعزية للمشتاقين وتسلية لهم:
قال: هذه الآية في قوله تعالى:
﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ في هذه الآية تعزية للمشتاقين وتسلية لهم؛ أي أن الله عز وجل يعلم أنه من كان يرجو لقاءه فهو مشتاق إليه، لقد أجّل له اللقاء، ولكن كل آت قريب، في النهاية سيصل إلى محبوبه، وقد كان عليه الصلاة والسلام يسأل الله عز وجل في دعائه الشريف الطويل:
(( عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى بأصحابِهِ يومًا أَوجَزَ فيها، فقيلَ له: يا أبا اليَقْظانِ، خفَّفْتَ، قالَ: ما عَلَيَّ في ذلك، لقد دَعوتُ فيها بدَعَواتٍ سَمِعْتُهنَّ مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: فقامَ رَجلٌ فتَبِعَهُ هو أبو عَطاءٍ، فسَأَلَهُ عنِ الدُّعاءِ، فرَجَعَ، فجاءَ، فأَخْبَرَ: اللَّهُمَّ بعِلمِكَ الغيبَ، وقُدرتِكَ على الخَلْقِ أَحيِني ما عَلِمتَ الحياةَ خيرًا لي، وتَوفَّني إذا كانت الوفاةُ خيرًا لي، اللَّهُمَّ وأَسألُكَ خَشيتَكَ في الغيبِ والشَّهادةِ، وأَسألُكَ كلمةَ الحُكمِ في الغضبِ والرِّضا، وأَسألُكَ القَصدَ في الغِنى والفقرِ، وأَسألُكَ نَعيمًا لا يَبيدُ، وأَسألُكَ قُرَّةَ عينٍ لا تَنفَدُ ولا تَنقطِعُ، وأَسألُكَ الرِّضا بعدَ القَضاءِ، وأَسألُكَ بَرْدَ العيشِ بعدَ الموتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وأَسألُكَ الشَّوقَ إلى لقائكَ في غيرِ ضرَّاءَ مُضِرَّةٍ، ولا فِتنةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زيِّنَّا بزينةِ الإيمانِ، واجعلْنا هُداةً مُهتدينَ. ))
[ المستدرك على الصحيحين: صحيح الإسناد ]
بعضهم يدعو عقب الصلاة، فيقول: اللهم أعنّا على دوام ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وارزقني الشوق إلى لقائك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم.
حال المؤمن وحال الكافر عند الموت:
هنيئاً من كان مشتاقاً إلى الله، إذا ًسيغدو الموتُ تحفتَه، وسيغدو الموتُ عرسَه، حدثني بعض الأطباء الذين يعيشون في بلاد أمريكا قال: الإنسان لكثرة ما يتوافر في حياته الغنى، والرفاه، والراحة، والأشياء التي يحرص عليها، أكبر مصيبة قربُ الموت منه، يُصاب بانهيار عصبي، يُصاب بحالة فزع، أو هلع لا توصف، لماذا؟ لأن آماله كلها وضعها في الدنيا، والموت مصير كل إنسان، أما هذا المؤمن ماذا فعل؟ وضع آماله في الآخرة، قدّم ماله أمامه فسرَّه اللحاقُ به، جاهدَ نفسه وهواه فسرَّه أن يلقى الله وهو عنه راضٍ، بذل من ماله ومن وقته ومن جهده ومن علمه الشيءَ الكثيرَ، هو في رضوان الله عز وجل:
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾
مثلاً تصور إنسانًا قيل له: اذهب إلى بلاد أوربا، ائتِ بالدكتوراه، ولك في بلدك أعلى منصب، ولك في بلدك أجمل بيت، وأفضل امرأة، وأغلى سيارة مثلاً، هذا هناك درس، وعَمِـل في مطاعم، في حراسة، عمل شاق مُجهد خطر، عاش حياةً خشنة جداً، ذاق من الحياة ما فيه مشقة وجهد، نال الدكتوراه، صدّق الشهادة، اشترى بطاقة العودة، ذهب إلى المطار، وضع رجله في سُلَّم الطائرة، أنا فيما أتصور أن هذه اللحظة هي أسعد لحظة في حياة هذا الطالب، لأنه انقضى عهد التعب، والعمل الشاق، والسهر، والجهد، والطعام الخشن، والمأوى القميء، والدخل القليل، والجهد الكبير، إلى أعلى منصب، وأجمل بيت، وأفضل امرأة، وأغلى سيارة مثلاً، هذا هو المفهوم المادي، فهكذا حال المؤمن، انقضى وقـت التكليف، انقضى مجاهـدة النفس والهوى، انقضت متاعب الحياة، انقضت مُقلقاتها، بقيت الجنـة، فلذلك لا يُعقل أن يكون المؤمن إلا مشتاقاً لله عز وجل.
من سيرة رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن النبي عليه الصلاة والسلام عَقِب إحدى الغزوات تفقد أحد أصحابه، وهو سعد بن الربيع، سأل عنه، لم يدرِ عنه شيئاً، كلف أحد أصحابه أن يتفقده في أرض المعركة، ذهب إلى هناك وجده في النزع الأخيـر، قال: يا سعد بن الربيع أنت بين الأموات أم مع الأحياء؟ قال له: أنا مع الأموات، قال له: لقد كلفني النبي أن أتفقد حالك، اسمع ماذا قال له، قال له: أبلغ رسول الله مني السلام، وقل لأصحابه: لا عُذرَ لكم إذا خُلِص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، ما معنى ذلك؟ أنه كان في أعلى درجات الشوق إلى الله عز وجل، وأعلى درجات السعادة.
الفرق الصارخ بين حياة المؤمن وحياة غير المؤمن:
أحد إخواننا الكرام كان ملتزماً بهذه الدروس، توفاه الله قبل شهرين، مرة حجّ بيت الله الحرام، ولما عاد ذهبت لتهنئته، فقال لي كلمة طربت لها، قال لي: والله يا أستاذ ليس في الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني، فقال لي ابنه البارحة: كتبت هذه العبارة على شاهدة قبره، ليس في الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني، فهذا المؤمن الذي أمضى حياته في طاعة الله، وضبط أعضائه وجوارحه، وأنفق من ماله ووقته وجهده وخبرته وعلمه، وكان مصدر رحمة للناس، مصدر أمن للناس، مصدر عطاء للناس، هذا الذي أمضى حياته كلها أيعقل ألا يشتاق إلى الجنة؟
سيدنا عمر بن عبد العزيز يقول: تاقت نفسي إلى الإمارة، فلما بلغتها تاقت نفسي إلى الخلافة، فلما بلغتها تاقت نفسي إلى الجنة، فالجنة مطلـب كل مؤمن، لذلك الفارق الصارخ بين حياة المؤمن وحياة غير المؤمن أن المؤمن مشتاق إلى الجنة، بينما غير المؤمن تُعدّ مقدمات الموت مُفزِعة له.
أعرف رجلاً أنا ما رأيته لكن سمعت عنه، رجل كان صالحاً، وكان محسنًا، وله أيادٍ بيضاء، من لقطات حياته أنه إذا دخل عليه إنسان يسأله صدقة لجمعية خيرية، أو لمشروع إنساني، يقول له: افتح الصندوق وخذ ما تريد ولا تُعْلمني، هكذا، أنشأ مسجدًا، له أيادٍ بيضاء، له أعمال صالحة، له صدقات، ثم أصيب بمرض عضال، القصة له تفصيل دقيق أنه وُعِد بعد يومين أن يأخذ الجواب من المستشفى، المستشفى اتصلت بأهله لتعلمهم أنه منته، سيموت بعد يومين، كان مصاباً بمرض بالدم، هو رفع السماعة فسمع الخبر بأذنه، يقول لي صديقه، له صديق حميم طلبه، قال له: أنا انتهيت، أعطاه تعليمات في يوم كيف ينهي علاقاته التجارية، قال له: يوجد ثلاث صفقات؛ صفقة دُفِع ثمنها، خلصها وبعها ووزع أرباحها على أولادي، الصفقة الثانية والثالثة هذه ألغها لأنني أنا ليس في عمري بقية كي أبيعها، وفي اليوم الثاني جمع أهله وأصهاره وبناته وأولاده جميعاً وودعهم، وله شيخ في الشام-الآن ليس في دمشق ردّه الله بالسلامة-في اليوم الثالث جاء شيخه مع نخبة من إخوانه، وقرؤوا له القرآن والتهليل، وكما قيل له بالهاتف: في الساعة الواحدة رجعت نفسه إلى بارئها، الشيء اللطيف أنه هو في النهار تغسّل، تغسّل تغسيلاً كأنه يُغَسّل نفسه، وأنهى كل علاقاته، الشيء العجيب بالقصة أن إنساناً لا يخاف الموت، لأن عمله طيب، إلى أين؟ قال:
﴿ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)﴾
﴿ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)﴾
أنا أقول لكم بشكل واقعي: الموت يخافه الإنسان، لكن يخافه حينما يرى نفسه مقصراً، سيدنا علي يقول: والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي، هناك قصص كثيرة جداً، تجد المؤمن يستقبل الموت وهو راضٍ، وهو مستبشر، قرأت تاريخ سبعين صحابياً جليلاً، لفت نظري في هذه التواريخ كلها أن شيئاً مشتركاً واحداً يجمع بين كل هؤلاء، أن أصحاب النبي كانوا في أسعد لحظات حياتهم ساعة لقائهم ربهم أبداً، هذا كله يندرج تحت الشوق إلى الله عز وجل.
كلما ازدادت الذنوب وانكشفت العيوب ازداد خوف الإنسان من الموت:
قال لي أخ البارحة: أنا أخاف الموت، قلت له: والله أعلم إذا ضبطت نفسك ضبطاً شديداً في استقامتك، وعملت أعمالاً صالحة يومية متكررة، عملك الصالح، واستقامتك الشديدة، هذه تجعلك تشتاق إلى الله، ويخِفُّ قلقُ الموت عندك، والحقيقة لعل هذا من الواضح جلياً أنه كلما ازدادت الذنوب، وانكشفت العيوب، وابتعد الإنسان عن الله عز وجل، ازداد خوفه من الموت، بل إن الشارد عن الله عز وجل يكاد قلبه ينخلع من منظر الآس والقبور، وبعض الناس يخافون أو يتشاءمون إذا سمعوا القرآن الكريم، لأنه في أذهانهم يُتلى على الأموات، بينما المؤمن استقامته وعمله الطيب يدفعانه إلى أن يشتاق إلى لقاء الله عز وجل.
متى يشقى الإنسان ومتى يسعد؟
إذاً أصل هذه المنزلة: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ فالله سبحانه وتعالى جعل من هذه الآية تعزية للمشتاقين وتسلية لهم، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو ويقول: ((وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وأَسألُكَ الشَّوقَ إلى لقائكَ)) وكان عليه الصلاة والسلام دائم الشوق إلى لقاء الله، لم يسكن شوقه إلى لقائه قط، ولكن الشوق مئة جزء، تسعة وتسعون له، وجزء مقسوم على الأمة بأكملها، أنا الذي أتمناه على إخوتنا الكرام أن يُقيم علاقة متينة مع الله، أن يكون له اتصال شديد، إقبال عالٍ، محبة لله عز وجل، هذه تمتص كل آلام الدنيا، وكل متاعبها، وكل مقلقاتها، والله الذي لا إله إلا هو إن لم يكن القلب مشتاقًا إلى الله عز وجل امتلأ خوفاً، وقلقاً، وندماً، وحزناً، وأسفاً، وضياعاً، وقلقاً، وتشتتاً، هذا القلب لا يطمئن إلا بذكر الله، فإذا ذكرت الله عز وجل أنساك اللهُ همومَ الدنيا، وإن غفلت عن الله واللهِ الذي لا إله إلا هو المقلقات والمثبطات وأسباب الحزن والشقاء تنبع نبعاً أمامك، قال تعالى:
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)﴾
وأوضح آية في هذا الموضوع:
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾
أي القلوب لا تطمئن إلا بذكر الله.
من آثار المحبة الشوق إلى الله عز وجل:
الآن الشوق أثر من آثار المحبة، المحبة شعور، من آثار المحبة الشوق إلى الله عز وجل، وحكم من أحكامها، بل إن الشوق هو سفر القلب إلى المحبوب في كل حال.
الآن بربكم لعلّ بعضكم مرَّ بهذه التجربة، لو خطبت فتاة راقت في عينك، وأحببتها حباً جماً، وأنت جالس في البيت تتصورها، الآن نائمة، الآن تدرس، صورة هذه الفتاة لا تغادر مخيلتك، هذا هو الشوق، إذا كنت مشتاقاً لها فأنت معها شئت أم أبيت، ولو أنها في طرف الدنيا الآخر، الإنسان جسمه مقيد، أما نفسه طليقة، أمٌّ لها ابن في أمريكا، هي معه، لو أنها ذهبت إلى رؤيته هناك ورأت بيته وغرفته، وهي في بلدها تتصوره، الآن نائم، الآن يأكل، الآن يدرس، الآن مضّجع هكذا، فالشوق إلى الله من نتائجه الحتمية أنك معه، قال: هو سفر القلب إلى المحبوب على كل حال.
قال بعضهم: الشوق هو اهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب، قد يقول أحدكم: الأستاذ يُركِّز على قضية أحوال القلب، هو الدين من دون أحوال يغدو ثقافة وحذلقة ومعلومات، وكل إنسان يُحصِّل هذه المعلومات، حتى كما قال بعضهم: إن حال رجل في ألف أبلغُ من مقالة ألف في واحد، أي ألف قول من ألف رجل في واحد لا يُحدث تأثيراً كالذي يحدثه حال واحد في ألف.
إنسان محبّ لله حقيقة، وقَّافٌ عند كتاب الله، مشتاقٌ إلى الله، حال إنسان مؤمن صادق في ألف، بينما ألف مقال لا يؤثر في واحد، أي واحد يغير ألف وألف مقالة فصيحة لا تغيِّر واحدًا، واحد يغيِّر ألفًا بحاله، واتصاله بالله، وشوقه إلى الله، وعزيمته القوية، وصدقه الشديد، بينما ألف قول أجوف خال من الإخلاص، لا يؤثر في واحد، لهذا الأنبياء كانت حياتهم معجزة.
أحد أصحاب النبي كان يخدم النبي عليه الصلاة والسلام، يصرفه مساء، ينام على عتبة البيت، أي إنسان عنده إنسان يخدمه موظف ينتظر على الدقيقة، هل تريد مني شيئاً؟ لا، مع السلامة، بينما هذا الذي يخدم النبي عليه الصلاة والسلام في انجذاب شديد، فأنت كلما انجذبت إلى الله انجذب الناس إليك، ولعل هذا ذكرته اليوم في درس الفجر:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾
بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد كنت ليِّناً لهم، الاتصال من ثماره الرحمة، والرحمة من ثمارها اللِّين، واللِّينُ يجعل الناس يلتفون حولك، والانقطاع عن الله عز وجل من نتائجه الوبيلة قسوةُ القلب، والقلب القاسي صداه غلظة وفظاظة، والغلظة والفظاظة يجعلان الناس ينفضان عنك، فاتصال ورحمة ولين والتفاف، وانقطاع وقسوة وغِلظة وانفضاض، معادلة رياضية، فالشوق أثر من آثار المحبة، وحكم من أحكامها، والله الذي لا إله إلا هو إيمان من دون حبّ، إيمان من دون شوق، علم غزير من دون حال صادق كالجسد من دون روح.
من له نفس أن يتأمل ميتاً؟ يكون إنساناً محبوباً مؤنساً لطيفاً، إذا دخل إلى بيته هشَّ له أولاده وبشُّوا، وكان عندهم عيد، فإذا مات يخافون أن يدخلوا غرفته، ما الذي حدث؟ سُحِبَت الروحُ فصار مخيفاً، وسِّع الأمرَ؛ إسلام من دون حبّ جسدٌ من دون روح، ثقيل، أعباء، قيود الدين، أما الدين حبٌّ، الدين شوق، فعلاً شيء عجيب، تجد المؤمن كالمِرجَل لا يتعب، يعمل ليلاً ونهاراً، من دون تعبٍ أو كلل، لأن عنده محركاً، المحرك هو الحب.
مرة عندنا أستاذ بالجامعة، له باع طويل في علم النفس، يُعد أحد كبار علماء النفس، أُحيل إلى التقاعد، أول مرة يُقام له حفل وداع من أرقى أنواع الحفلات، كنت حاضراً هذا الحفل، قام وألقى كلمة قال: كل إنسان يجد في نفسه حاجة إلى أن يُحِبَّ، أو أن يُحَبَّ، ليس من بني البشر، لأنك إنسان ينبغي أن تُحِب، وينبغي أن تحرص على أن تُحَب، وقال بعدها: والحب أنواع، في أعلاها أن تحب الله، لأنه منحك نعمة الوجود، نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد، ثم أن تحب الحقيقة، وأن تكون مع الحقيقة ولو أزعجتك.
أنا أعبر عن هذا لأن الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح، ثم أن تُحِب من أمرك الله أن تحبهم، ولبعض العلماء قولٌ رائع قال: هناك حبّ في الله وهو عين التوحيد، وحبّ مع الله وهو عين الشرك، أي إذا أحببت إنسانًا فمحبته زادتك حباً في الله، محبة هذا الإنسان عين التوحيد:
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)﴾
بضمير المفرد، أي إرضاء رسول الله عين إرضاء الله، وإرضاء الله عين إرضاء رسول الله، أما إذا أحببت إنساناً، وحبك لهذا الإنسان أبعدك عن الله فهذا حبّ مع الله، إذا كانت محصلة هذا الحب قُرباً من الله فهذا حبّ في الله، وإذا كانت محصلة هذا الحب بُعداً عن الله فهذا حبّ مع الله، الحب في الله عين التوحيد، والحب مع الله عين الشرك.
أمثلة على أنواع الحب في الله:
إنسان له شريك، قوي في التجارة، وإدارته للشركة عالية جداً، أرباح طائلة، هذا يحبه، جلس معه نسي صلاة العصر، قال له: نريد أن نعمل المطعم خمس نجوم، لكن نريد أن نبيع الخمر، هؤلاء غير المسلمين، لا علاقة لنا بهم، قال له: لابأس، رضي أن يباع الخمر في هذا المطعم لأنه حريص على الدخل، وهو يحب شريكه، هذا حبّ مع الله، هذا حبّ هو عين الشرك، قال لي أحدهم مرة: نحن نبيع الخمر بمطعمنا، إن شاء الله برقبة شريكي، لا دخل لي، أنا أقبض ربحي فقط، هو لا علاقة لي به، هو الإدارة له، هذا حبّ مع الله، أما إذا أحببت إنسانًا فزادتك محبته حباً بالله هذا حب في الله، لذلك حبُّ المؤمنين حبٌّ في الله، حبُّ العلماء العاملين المخلصين حبٌّ في الله، حبُّ التابعين حبّ في الله، حبُّ تابعي التابعين حبٌّ في الله، حبُّ أصحاب رسول الله حبٌّ في الله، حبُّ النبي حبٌّ في الله، حبُّ المساجد، حبُّ الأعمال الصالحة، حبُّ كل شيءٍ يقربك من الله عز وجل هو حبٌّ في الله، أما كل شيء إذا أحببته ضعُفت صلاتك، أو سهوت عن صلاتك، إذا أحببته نسيت أمر ربك، هذا حبّ مع الله، فاحرصوا على الحب في الله، وابتعدوا عن الحب مع الله.
علامة الشوق أن تبتعد عن كل شهوة تقطعك عن الله عز وجل:
قال: الشوق هو اهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب.
وقيل: هو احتراق الأحشاء وتقطيع الأكباد، المُحب أحياناً يبكي، حدثني أخ قال لي: كنت في الحج، أصابني حال عالية، صرت أبكي، قال: كل من حولي: ما بالك؟ الأصل أن تبكي، الأصل أن الشوق هناك ينبغي أن يضطرب، فالأصل في الحاج المؤمن أن يبكي، هو حول الكعبة، وفي عرفات، وفي أثناء السعي والطواف، الأصل أن تبكي هناك، الأصل أن يتحرك الشوق، أما لبعد الناس عن الله إذا بكى الإنسان في الحج يظنونه فاقداً لشيء، ضيّع ابنه، فقد محفظة نقوده، هكذا يتوهمون.
وقال يحيى بن معاذ: علامة الشوق فطام الجوارح عن الشهوات، علامة الشوق أن تبتعد عن كل شهوة تقطعك عن الله عز وجل.
مرة رجل له دعوة، سأل تلاميذه كانوا صغاراً، قال له: يا بني، أنت لماذا تغض بصرك عن النساء؟ هناك طالب أراد أن يتملق شيخه، قال له: يا سيدي أنا إذا نظرت إلى فتاة أكرهها، أمقتها، قال له: كلامك غير واقعي، الله عز وجل زين المرأة في قلوب الرجال، سأل طالبًا ثانيًا وثالثًا، حتى أجابه أحدهم إجابة رائعة، قال له: يا سيدي أنا لي اتصال بالله عز وجل، لحرصي على هذه الصلة أغضّ بصري، لأني لو أطلقت بصري لانقطعت صلتي بالله، فمادامت هذه الصلة أنا حريص عليها حرصاً شديداً إذاً أنا أغضّ بصري، مع أن النظرة للمرأة مُحببة، هذا الواقع، الكلام الواقعي مريح.
بالعكس العلماء قالوا: العلم الوصف المطابق للواقع مع الدليل، الآية الكريمة لعلها مناسبة لهذا المقام:
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)﴾
معنى ذلك الإنسان الذي يكون عمله سيئًا لا يتمنى الموت، لا يشتاق إلى الموت، واكربتاه يا أبتي، قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه، فهذا مؤشر قوي جداً: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ .
قال أحد العلماء: علامة الشوق حبّ الموت مع الراحة والعافية، طبعاً هناك إنسان يتمنى الموت، إذا إنسان لا سمح الله ولا قدر معه مرض عضال، آلامه لا تُحتمل، حدثني أخ قال لي: كنت في فرنسا، عرضوا برنامجًا عن مأوى العجزة، قال لي: الذي أجرى البرنامج التقى مع امرأة عمرها مئة وسنة، امرأة ثانية في التاسعة والتسعين، امرأة ثالثة عمرها مئة وثلاث سنوات، يبدو أنهم هناك يُعمّرون كثيراً، فكلما سأل واحدة: ما هي أمنيتك؟ تقول: الموت، فالإنسان أحياناً يتمنى الموت، في حالات صعبة يتمنى الموت فلا يجده، مرة أحدهم دعا على خصومه قال له: اللهم أصبهم بعمى في أعينهم، وسرطان في دمهم، وشلل في أعضائهم حتى يتمنوا الموت فلا يجدوه، هناك حالات الإنسان يتمنى الموت، إذا كان هناك أمراض وبيلة كثيرة، أما هنا علامة الشوق إلى الله حب الموت مع الراحة والعافية، لعل هذا شيء يفوق مستوانا، أن تُحِب الموتَ وأنت في عافية تامةٍ، وأنت في راحة تامة.
الفائدة من ذكر أحوال نحن لسنا في مستواها:
قال: سيدنا يوسف لما أُلقيَ في الجب لم يقل: توفني وألحقني بالصالحين، ولما أُدخِل السجن لم يقل: توفني مسلماً وألحقني بالصالحين، متى قال: توفني مسلماً وألحقني بالصالحين؟ لما صار عزيزَ مصرَ، في أعلى درجة من القوة، والهيمنة، والغنى، والمكانة:
﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)﴾
النبي عليه الصلاة والسلام ألم يُخيره الله عز وجل بين زهرة الدنيا وبين أن يرفعه إليه؟ فقال: بل الرفيق الأعلى، كأن النبي قبل وفاته بقليل، ماذا قال؟
(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ! إِنْ يَكُنْ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ؟ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْعَبْد، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ، إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ. ))
وعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام يقصد نفسه، وقد يقول أحدكم: ما الفائدة من ذكر أحوال نحن لسنا في مستواها؟ هذه هدف، اجتهد كي تكون بهذا المستوى، إذا كانت هذه الأحوال نحن بعيدون عنها ونرجو الله أن نكون في مستواها، علينا أن نجتهد حتى نصل لمستوى هذه الأحوال.
الشوق ارتياح القلوب بالوجد ومحبة اللقاء بالقرب:
قال بعضهم: الشوق ارتياح القلوب بالوجد، ومحبة اللقاء بالقرب، الذي الله عز وجل أكرمه الله عز وجل بحجة مقبولة، وهو في عرفات قد يبكي كثيراً، هذا البكاء يورثه طمأنينة ما بعدها طمأنينة، يشعر أن الله قِبَلَه، وأن الله عفا عنه، وقد قال بعض العلماء: من وقف في عرفات فلم يغلب على ظنه أن الله قد غفر له فلا حج له، يجب أن يغلب على ظنك أن الله غفر لك.
المؤمن الصادق لا يضعُف شوقه مع شدة قربه من الله تعالى:
يوجد سؤال الآن: هل الشوق يزول باللقاء أم لا؟ إنسان مشتاق إلى الله عز وجل، إذا صار هناك اتصال، يا ترى هذا الاتصال يخفف الشوق؟ بعضهم قال: نعم، وبعضهم قال: لا، الذين قالوا: نعم، الشوق هدفه الاتصال، فلما صار الاتصال بَرَد الشوق، آخرون قالوا: لا، هناك فرق بين الشوق والاشتياق، أنت كلما رأيت من جمال المحبوب زدت شوقاً إليه، لذلك المؤمن الصادق لا يضعُف شوقه مع شدة قربه، اللهم صلّ عليه كان يمضي بعض الليل في صلاة وتهجد:
﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)﴾
أجلُّ مقام أن تكون مشتاقاً إلى الله عز وجل:
قال بعضهم: الشوق سفر القلب إلى المحبوب، فإذا قدِم عليه ووصل إليه صار مكان الشوق قرة عينه به، وهذه القرة تُجامع المحبة ولا تنافيها.
قيل لبعضهم: هل تشتاق إلى الله؟ قال: لا، أعوذ بالله، ما هذا الكلام!؟ قال: إنما الشوق إلى غائب، وهو حاضر معي، هكذا أجاب، إنما الشوق إلى غائب، قال تعالى:
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾
وفعلاً في أي مكان لك أن تناجيه، في أي مكان لك أن تدعوه، في أي مكان لك أن تسأله، في أي مكان لك أن تُسبحه، وأن توحده، وأن تُكَبّره.
وقال الجنيد: الشوق أجلُّ مقام للعارف إذا تحقق فيه، أجلُّ مقام أن تكون مشتاقاً إلى الله عز وجل، لذلك النبي الكريم كان يقول:
(( فعَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: رجلٌ من خُزاعةَ: لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فاستَرَحْتُ، فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يقولُ: أَقِمِ الصلاةَ يا بلالُ! أَرِحْنا بها. ))
[ هداية الرواة: خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح ]
نرجو الله أن نكون كذلك، تقول السيدة عائشة: كان عليه الصلاة والسلام يحدثنا ونحدثه، فإذا حضرت الصلاة فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه، يًحدثنا ونحدثه كواحد منا، فإذا حضرت الصلاة فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه، من شدة شوقه إلى الله عز وجل.
أهل الجنة دائماً في شوق إلى الله مع قربهم منه ورؤيتهم له:
قال بعضهم: أهل الجنة دائماً في شوق إلى الله، مع قربهم منه، ورؤيتهم له، كل واحد منا يحاسب نفسه، له ساعة مع الله يبكي فيتأثر، فيشعر أنه ملك شيئًا عظيمًا، يكون الله يحبك، والله مرة أحد الخطباء بعقد قران سبحان الله كلمة أعرفها أنا،
(( عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ ، فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ، لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّ عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.))
[ ابن حجر العسقلاني: صحيح ]
والله ما رأيت في الدنيا مقاماً أعلى من هذا المقام، أن يحبك رسول الله، والآن إذا أحبَّك المؤمنون هذه علامة طيبة جداً، أما إذا كان أهل الفسق والفجور يحبونك هذه وصمة عار في حقك، يجب أن يحبك المؤمنون، يجب أن يشتاق لك المؤمنون، يجب أن يأنس بك الناس، لا أن يحبك أهل الغرور، أهل الفسق والفجور.
بالمناسبة نحن على مشارف الحج لا يوجد إنسان يذهب إلى بيت الله الحرام إلا وهو مشتاق إلى الله عز وجل، ملبياً دعوة الله هو يقول: لبيك اللهم لبيك، كأن الله يقول له: تعال يا عبدي، تعال إليّ كي تذوق طعم القرب مني، تعال إليّ كي أريحك من هموم كالجبال، تعال إليّ وذق حلاوة مناجاتي، يقول له العبد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، هذه التلبيةُ إجابةٌ لنداء يقع في قلب المؤمن، الآن وصل إلى بيت الله الحرام، أيعقل أن يدعوك اللهُ إليه ولا تجد شيئاً هناك؟ لابد من أن تجد شيئاً نفيساً، أجمل ما قرأت عن قوله تعالى:
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)﴾
مثابة مصدر ميمي من ثاب، وثاب بمعنى رجع، من علامة الحج المبرور أنك إذا حججت بيت الله الحرام تتمنى أن تعود إليه كل عام، لذلك بعض الحجاج دون أن يشعروا، في أثناء طواف الوادع يقولون: اللهم لا تجعل هذا الحج آخر عهد لنا بالبيت، كل إنسان حجّ حجاً مقبولاً يتمنى أن يحج كل عام، حتى إنه قد ورد في بعض الأحاديث أنه إذا أصححت لعبدي جسمه، ووسعت عليه في المعيشة، وأتت عليه خمسة أعوام، لم يثب إليّ لمحروم، أي ألم يشتاق إلى هناك؟
إخواننا الكرام؛ هناك آية ثانية لها علاقة بهذا المقام:
﴿ قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)﴾
هو مشتاق إلى الله عز وجل.
الحكمة من إطالة موسى عليه الصلاة والسلام الحديث مع الله:
يروى أن سيدنا موسى عليه السلام وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام لما قال له ربُّنا عز وجل في المناجاة:
﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)﴾
سيدنا موسى من شدة شوقه إلى الله أراد أن يطيل الحديث، هو يخاطب رب العزة:
﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)﴾
انتهى، ﴿أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا﴾ يا رب، هذا اسمه: تفصيل، ﴿وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾ يريد أنْ يطيل اللقاء، ثم استحى، قال: ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ ، هنا غلب عليه الأدب، أطال الحديث، ثم غلب عليه الأدب، إذا سمح اللهُ عز وجل له أن يتابع الحديث، يقول له: يا موسى وما تلك المآرب؟ ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ هذه الإطالة في الحديث في أثناء المناجاة أيضاً من شوق هذا النبي الكريم إلى الله عز وجل.
أنواع المحبة للنبي وأصحابه وللمؤمنين الصادقين هي عينها محبة الله عز وجل:
الإنسان أحياناً يقف أمام حجرة النبي عليه الصلاة والسلام ويبكي، أن هذا الإنسان الذي جاء الحياةَ الدنيا فأعطى ولم يأخذ، هذا الذي بذل كل جهد من أجل سعادتنا، هذا الذي كرّم الإنسان، هذا الذي قدّس العقل، هذا الذي أعطى ولم يأخذ، هذا الذي جعله الله فوق الناس جميعاً فعاش بين الناس كأنه واحد منهم، هذا الذي قال: اللهم اهدِ قومي إنهم لا يعلمون، فقد يبكي الإنسان وهو أمام مقام النبي عليه الصلاة والسلام، بكاؤه شوقٍ إليه، والشوقُ إلى النبي الكريم شوقٌ إلى الله، والشوق إلى أصحاب رسول الله شوقٌ إلى الله، كل أنواع المحبة للنبي وأصحابه وللمؤمنين الصادقين عينُ محبة الله عز وجل، هذا حبّ في الله، هو عين التوحيد.
آخر فكرة لكن دقيقة جداً هكذا ورد في الأثر: أنه خرج داود عليه السلام يوماً إلى الصحراء منفرداً، فأوحى الله تعالى إليه: ما لي أراك منفرداً؟ فقال: إلهي استأثر على قلبي شوقي إلى لقائك، فحال بيني وبين صحبة الخلق، لا أريد أحداً، فقال الله عز وجل: ارجع إليهم، فإنك إن أتيتني بعبدٍ آبقٍ أثبتك في اللوح المحفوظ جهبذاً.
أحياناً الإنسان يُؤاثر الوحدة، جيد، يصلي، يقرأ قرآناً يبكي، جيد، أما إذا أنت ذكرت الله بتعريف الخلق به، هذا أرقى عند الله، هناك ذكر تعبدي، وهناك ذكر تعريفي بالله عز وجل، وهناك ذكر لبيان عظمة الله، وهناك ذكر أساسه أن تُوَضّح للناسَ أمر الله ونهيَه، وقد تُبادر إلى فعل الأمر وترك النهي فهذا أعظم أنواع الذكر، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)﴾
اذكروني لعبادي أذكركم، فهذا النص: ارجع فإنك إن أتيتني بعبد آبق أثبتك في اللوح المحفوظ جهبذاً، هذا معنى قول النبي الكريم:
(( عن سهل بن سعد الساعدي أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ يَومَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ علَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَه، ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسولُهُ، قالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ: أيُّهُمْ يُعْطَاهَا؟ فَلَمَّا أصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أنْ يُعْطَاهَا، فَقالَ: أيْنَ عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ؟ فقِيلَ: هو يا رَسولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، قالَ: فأرْسَلُوا إلَيْهِ. فَأُتِيَ به فَبَصَقَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في عَيْنَيْهِ ودَعَا له، فَبَرَأَ حتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ به وجَعٌ، فأعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقالَ عَلِيٌّ: يا رَسولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُهُمْ حتَّى يَكونُوا مِثْلَنَا؟ فَقالَ: انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ؛ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ. ))
خير مما طلعت عليه الشمس، وخير لك من الدنيا وما فيها، وخير لك من حُمرِ النَّعم، ليس حُمُراً، الحُمُر جمع حمار، أما حُمْر من اللون الأحمر، النِّعم جمع نعمة، أما النَّعم فهي الأنعام، يبدو أن الأنعام ذات اللون الأحمر هي أغلى شيء.
أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا وأن يلهمنا الخير.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق